فجأة ينساب في مفكرة العام بعد شهور الصيف والقيض اللاهب….فينساب معه دفق من الذكريات والأشواق والحنين لأشياء وأشخاص ومعالم ولحظات ذهبت أدراج الرياح خلف جدران الزمان المنقضي البعيد…..في أيلول……تطل علينا أولى تباشير الخريف فتظهر سحابات بيضاء خجوله على شكل كرة القطن المنفوشه نحو الشرق حيث بداية القصه ونهايتها…….وعند المساء في تلك الأثناء ترى وميضا خافتا لسياط البرق وهي تلمع عبر ثنايا السحابات المحموله على أكف الأثير الوثير…..وتتأمل بديع صنع الله في تلك السحابه وهي تتلون بالنار والنور بفعل أشعة الشمس الغاربه وبفعل وميض البروق….في أيلول…..وبمجرد أن تلامس حروف الكلمه مسامعنا وبسرعة غريبه ننتقل عبر الزمان ألى سالف أيامنا حيث أول أيام المدرسه بعد العطلة الصيفيه الطويله…..حيث بهجة الملابس الجديده ورائحة الكتب الجديده وحيث وجوه الأصحاب الذين لم نكن نراهم ألا لماما طيلة فترة الأجازه (فهم على بعد المسافه التي يقطعها الحبيب ألى حبيبه بقلبه) وكأنهم قد قدموا أخيرا من سفر طويل من بلاد بعيده تغفو خلف حدود أحلامنا البريئه…….وفي تلك الفتره من العام بالذات تكون كل ثمار التين والعنب والدراق والرمان قد نضجت جيدا وجدا كآخر الثمار الباقيه على أغصان الشجر وكآخر مابقي من ثمار الصيف…..وفي تلك الفتره أيضا تكون سنابل القمح التي تم حصادها في حزيران قد أصبحت آمنة مطمأنة في غرفة الخزين حيث بقية أدوات الفلاح وأشياؤه الكثيره أو أنها تكون قد نضجت بعد طحنها على شكل أرغفة خبز دسمه وشهيه بيد أمهاتنا اللائي يستبقلننا بصحن أرغفة الخبز الساخنه بعد أن نقفل عائدين من المدرسه (وأنا هنا بالطبع أقصد أيلول ذلك الزمان البعيد وليس أيلول زماننا المأسوف على شبابه )…..في أيلول أيضا تبدأ تيارات الرياح الشمالية الغربيه والغربيه القادمه عبر البحر الأبيض المتوسط بالهبوب مساء وبعد ساعة العصر…تلك الرياح المنعشه تكون قد بدأت رحلتها من بقاع بعيده في شمال وشمال شرق وشرق أوروبا بالتحديد لتنحدر نزولا عبر أراضي بولندا وهنغاريا ورومانيا وتسبح فوق مياه البحر الأسود ومن هناك تجتاح الأراضي التركيه واليونانيه لتحط رحالها أخيرا بالقرب من جزيرة كريت وجزيرة قبرص لتحول مسارها شرقا نحو بلاد الشام وفلسطين فتحل ضيفا عزيزا طال غيابه كما طال أنتظاره خصوصا بعد صيف شديد القسوه …وهي أما تزورنا على شكل نسمات عذاب ورطبه محملة بعبير الأعشاب البريه في القرى والبراري والأرياف أو على شكل سيل شفاف من الندى والضباب يجتاح الأوديه والهضاب وأعالي الجبال فيغسل ما علق من غبار تموز وآب على أغصان الشجر وسيقان الورود ويروي ظمأ الأعشاب البريه التي أنهكها العطش………وفي أيلول أيضا…..في أيلول ينطلق موسم الحب عاصفا في عالم الكائنات……حيث تضج غابات شمال أوروبا وروسيا وشمال كندا وغابات جبال البيرينيه على الحدود الفرنسيه الأسبانيه وغابات جزيرة هوكايدو في شمال اليابان بأصوات الغزل والتصابي بين سكانها من غير البشر. ..فتعيدك تلك الأصوات في لمحه آلاف السنين إلى الوراء حيث الحياة الأولى وحيث البذرة الأولى وحيث الضحكة الأولى…….كما وتبدأ سجادة بديعة المنظر بهية الألوان فاتنة المشهد بالتشكل فوق أرضية الغابات وعبر أغصان وفروع شجر القيقب الكندي والأرز والسرو المخروطي وأشجار الصنوبر العملاق حيث لا زالت أطياف الحياة العذراء تتنقل في تلك النواحي هادئة قانعة مطمئنة البال. …………..يا ساده……..أيلول لا أراه كما شهور السنه….أبدا……ليس لأن الأمر يتعلق بي شخصيا…بل لما يحدث من تحولات وتبدلات وبدايات ونهايات في هذا الشهر الذي يمتد عميقا في شرايين العقل والقلب والروح…………أيلول هذا يبدأ في العاده كتتمة للصيف وقد يتوسط وقد بدأت أولى طلائع الخريف بالوصول. ..لكنه قد يختم حضوره البهي بعاصفة رعديه ينثال المطر في ذروتها سحا غدقا ليقبل التراب الذي جف وبهت لونه وجدران البيوت التي تصلبت وتخشبت وجذوع الأشجار القديمه التي أشتاقت لبعض الماء لتبلل به ظمأها للحياة. …وليعانق المطر الهاطل تلك الدروب الترابية القديمة المنسيه التي هجرها من أعتادها يوما ولم يبق ألا مطر أيلول يزورها كل عام ليوقظ فيها الحياة من جديد وليبقى أبدا على العهد……………………..فيا شهر أيلول……أمضي على مهلك رويدا رويدا ولا تكن عجولا…..ولتكن ساعتك بيوم ويومك بأسبوع وأسبوعك بشهر. …..فما زلت وستبقى توقظ فينا كل الحب وتوقظ فينا كل اللحظات والأشياء والذكريات الجميله……..فأنت من علقني بالغيم وبالريح وبالندى وبالمطر وبقبرة الصحراء ذات الحداء الرخيم……..وأنت من أبدأ به عامي وبك أنهيه………….أيلول…………….الغريب….عماد.